منهج الإسلام في المحافظة على الأعراض (5) د. عصام عبد ربه محمد مشاحيت أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية

0 81

 

انتهينا في المقال السابق من الحديث حول المنهج الوقائي في المحافظة على الأعراض، ونبدأ بعون الله ومدده وتوفيقه وكرمه وإحسانه الحديث حول، المنهج العقابي (التأديبي) في المحافظة على الأعراض, فنقول:

المنهج العقابي ( التأديبي ) في المحافظة على الأعراض:

لقد شرع الله تعالى الحدود للانزجار(للامتناع)عما يتضرر به العباد، وصيانة دار الإسلام عن الفساد والطهر من الذنب؛ ليست بحكمٍ أصلي لإقامة الحد؛ لأنها تحصل بالتوبة لا بإقامة الحد، ولهذا يقام الحد على الكافر ولا طهرة له .

وقد حذر الله تعالى من اقتراف الحدود، فقال تعالى: ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) الطلاق: 1, وقال – جل شأنه – : ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) البقرة: 187.

وقال – صلى الله عليه وسلم – : ” حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحًا”  سنن النسائي: 8/ 75، قال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 3130 في صحيح الجامع.

قال شيخ الإسلام: خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا كقوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ﴾ [المائدة: 38].

وقوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2].

وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: 4]؛ لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرًا عليه والعاجزون لا يجب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد؛ بل هو نوع من الجهاد، فقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 216].

وقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190].

وقوله: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ [التوبة: 39] ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين و “القدرة” هي السلطان؛ فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه . ( مجموع الفتاوى 9/138. ) .

أولا : تشريع الإسلام للحدود – الزنا – القذف – شرب الخمر:

1 –  حد الزنا:

لا شك أن في العقوبة التي فرضها الإسلام على الزنا رحمةٌ للناس؛ لأن فيها إبعادَهم عمَّا يضرهم صحيًّا واجتماعيًّا، ورحمة للذرية؛ لأن فيها إنقاذَ الأطفال من أن يُولَدوا وهم مشرَّدون ضائعون لا أب لهم، وإنقاذهم من الإصابة بأمراض الزنا التي يكتسبونها بالعدوى من أمهاتهم الزانيات، ورحمة للزوجات العفيفات؛ لأن فيها حمايتهن من أن تنتقل إليهن بالعدوى أيضًا أمراضُ الزنا من أزواجهم الزناة، ورحمة للأمة بأسرها؛ لأن فيها حفظها من أن تقوَّض أركانها.

ومع ذلك كله، فإن الإسلام شرع كلَّ ما من شأنه إبعاد حد الزنا من تطبيقه على الناس ما أمكن إلى ذلك سبيلاً؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه –  قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” ادفعوا الحدود ما وجدتم بها مدفعًا “.

ومن المعلوم شرعا إن جريمة الزنا “لا تثبت إلا بشهادةِ أربعة شهود عدول، يرون الجريمة فعلاً رأي العين، وبدرجة التثبت واليقين، ويشترط أن يكون الشهود أربعة لا أقل، حتى إذا نقصوا عن أربعة أو سحب واحد منهم شهادته، لعُدَّ الباقون متَّهمين بالبلاغ الكاذب، فوقعت العقوبة عليهم بدلاً من توقيعها على المجرم الأصيل.

ولم يكن القصدُ من المبالغة في هذا الاحتياط تشجيعَ الفاجرين على الزنا، وإنما الدافعُ إلى ذلك هو الحرصُ على أعراض الناس من تشويهِ سمعتِها بالبلاغات الكاذبة الصادرة من نفوس مريضة، وكذلك لجعل التبليغ عن جريمة الزنا نادر الحدوث، فلا يتحدث المجتمع عن وقوعها، ولا تلوكُها الأفواه، وهذا هو الأمر المقصود,

فإن كثرة الحديث عن وقوعِ الجرائم يهوِّنُ من أمرها لدى المسلمين، ويُغرِي ضِعاف النفوسِ بإتيانها اقتداءً بالمثل السيئ، وأما حين لا يذكرها الناس، فإنها مرهوبة يستبشع الناس حدوثها، ولا يقدم عليها أحد، فيقف هذا حائلاً دون انتشارها، ولمثل هذا أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن وقع في معصية فستر الله عليه فلم يره أحد ألا يعود فيقول: صنعت كذا وكذا.

وإنما توقع العقوبةُ على المتبجِّح الذي يصل تبجُّحه إلى حد أن يضبطه أربعة من المارَّة متلبسًا بجريمته، وأقول: من المارة؛ لأن التجسس ممنوع بأمر القرآن، وتسوُّرُ البيوت لإثبات الجريمة ممنوعٌ كذلك، إلا أنْ تقوم القرائن اليقينية على اتخاذها أوكارًا لمفسدين في الأرض، يسعون بها فسادًا.

وهذا المتبجِّح يرتكب في الحقيقة جريمة مزدوجة، فليس هو الشخص الذي استولت عليه نزوةُ الغريزة فلم يقدر عليها، وإنما هو العابث المستهتر الهازئ بكل تقاليد المجتمع وقوانينه وآدابه؛ فهو لذلك لا يستحقُّ الرحمة لا من الله ولا من الناس، فيقول القرآن عنه: ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ [النور: 2].

أما المجرم المتستر الذي يراعي تقاليد الجماعة حتى وهو يقع في الخطيئة، فهو أقل ضررًا على المجتمع؛ لأن جريمته لن تشيع، ولا يكون هناك خطر العَدْوَى بالقدوة السيئة، وهو متروك لضميرِه، وعذاب الآخرة ينتظره في نهاية المطاف، وعسى أن يتوب فيتوبَ اللهُ عليه

فمن حرصِ الإسلام على أعراض الناس ورحمته، أمر بالتستُّر، بأن يستر المرء جريمته، وألا يفضحَ نفسه ولا أخاه، ويحثهم من وراء ذلك على التوبة والاستغفار، والله تواب رحيم.

وحد الزاني كما بينته الشريعة :  إذا زنى المحصن رُجم حتى يموت، وإذا زنى الحر غير المحصن جلد مئة جلدة وغرّب عامًا، ولو كان امرأة.

2 –  حد القذف :  المراد بـ “القذف” في الحدود : هو الرمي بالزنى أو اللواط ، وهذا مناسب لأصل معنى “القذف” في اللغة ، فإن معناه : الرمي بقوة ، فمن اتهم إنساناً بالزنى أو شتمه به فقد قذفه ، ورماه بشيء شنيع .

والقذف محرم ، بل من كبائر الذنوب إذا كان المقذوف محصناً وعفيفاً عن الزنى .

قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور: 23 .

قال السعدي –  رحمه الله – : “ذكر الله تعالى الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: العفائف عن الفجور (الْغَافِلاتِ) التي لم يخطر ذلك بقلوبهن (الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير.

وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهذا زيادة على اللعنة، أبعدهم عن رحمته، وأحل بهم شدة نقمته” انتهى .

وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ [أي : المهلكات] . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ) .

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (22/76) : “قذف المسلم لأخيه لا يجوز ، وهو كبيرة من الكبائر ، يجب التوبة من ذلك ، وطلب العفو من المقذوف ، ومن حقه إذا لم يعف أن يطالبه شرعا بحقه .

وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصناً ، وهو أن يجلد ثمانين جلدةً ، لقول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ  ) النور: 4.

3 –  حد شرب الخمر: الخَمْرُ في اللّغة: اسم مُشتقّ من الفعل خَمَرَ، أي بمعنى غَطَّى وسَتَرَ، فيُقال: خَمَرَت المرأة وجهها أي: غَطَّته، وخَمَرَه في بيته أي: سَتَرَه، وخَمَرَ شَّهَادَته أي كَتَمَها، والخَمْرُ شرابٌ معروف سُمّيَ بذلك لأنّه يُغطّي العقل ويخمره، فيستُره عن طبيعته المعروفة، فلا يعمل بكامل قدرته وقوته .

أما في الاصطلاح أو التّعريف الشَرعيّ لَه فهو كلّ شرابٍ مُسْكِر من أي أصلٍ كان، سواءً من الثّمار؛ كالعنب، والتّمر، والزّبيب، أو الحُبوب؛ كالشَّعير، والحِنطة، أو الحيوان؛ كلَبن الخيل، أو الطَلول؛ كالعسل ، أو غيرها من المُسمّيَات والأنواع الحديثة المُنتشرة لها، كالويسكي، أو الشّمبانيا مثلاً، فهي ما تُذهب العقل، وتُفقد شاربَه الوعي والإدراك، وتَجعلَه سَكراناً.

لقد قامَ الدّين الإسلاميّ الحَنيف بتحريم شُرب الخَمْر وكلّ المُسْكرات تحريماً شرعيّاً، فلا يجوز شُربها أبداً لا قليلها ولا كثيرها، ولا يجوز الاقتراب منها، وعُدَّ شربَها كبيرة من الكبائر، فقد أجمع الفقهاء والعُلماء على هذا التّحريم لورود الأدلّة الصَّريحة ببيان هذا التّحريم، فقال الله تعالى في مُحكَم تنزيله : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) المائدة: 90 .

فأمر الله عز وجل باجتنابها، والاجتناب أشدّ أنواع التّحريم وأعلاها درجةً؛ لأنّه أمرٌ بالبُعد قَدرَ الاستطاعة عن الشَّيء المُحرَّم. وقد وصفَها الله عز وجل بالرِجْس، والرِجْسُ في اللّغة: الشَيء القَذر في مُنتَهى القُبح.

وأمّا في السُنّة النبويّة المُطّهَرة فالأدلة على تحريمها كثيرة مُتواترة تبلغ مَرتبة اليقين. فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مُسْكرٍ خَمْر وكل خَمْر حَرَام) .

وحَدّ شُرب الخَمْر الجَلدْ، ومِقداره أربَعون جَلدَة، أو ثَمانون، اختلف العُلماء في ذلك على قَولين:

الأول: وبه قال الحَنابلة والمَالكيّة والحَنفيّة، والقول الرَّاجح عندهم بأنّ شَاربَ الخَمْر يُجلد ثَمانينَ جَلدة، واستدلّوا على ذلك بإجماع الصَّحابة عندما استشار عُمر رضي الله عنه الناس بمقدار الحَدّ فأشاروا عليه بذلك فأخذ به، وكتب لخالد وأبي عُبيدة بالشّام به.

الثّاني: وهو قول الشافعيّة في الأصحّ عندهم، والحنابلة في رواية ثانية بأنّ مِقدارَ الحَدّ أربَعون جَلدة فقط، وجَازوا للإمام أو الحَاكم أن يَزيدَه إلى ثَمانيْن، وتُعتبر هذه الزّيادة تَعزيْراً، واستدلّوا على قولهم ذلك في أمَر عليّ رضي الله عنه لعبَد الله بن جَعفر بأن يَجلد الوليد بن عُقبة، فجَلده ‏وعَليٌ يَعُد حتى بلغ أربَعيْن، فقال: أمْسِك، ثم قال: (جَلدَ النّبي صلى الله عليه وسلم أربَعين، ‏وجَلدَ أبو بكر أربعين، وعُمر ثمَانين، وكلٌ سُنّة، وهذا أحَبُّ إلي).

وحُجّتُهم في ذلك أنّ فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يَجوز تركه ولا يَنعَقد الإجماع على فِعل يُخالف فِعلَه صلّى الله علَيه وسَلم، فحُملَت الزّيادة عن الأربَعين تَعزيْراً.

ثانيا : العقوبة الشديدة لمن يسعى بالإفساد في الأرض ، ومنه الاعتداء عليها:

نهى الله – عز وجل – عن الإفساد فقال سبحانه: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56]، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين فقال مبيناً حال بعض الناس: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205]، وأمر بالإحسان ونهى عن الفساد فقال: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، وبين جل وعلا الفارق العظيم بين أهل الإصلاح وأهل الفساد فقال: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28].

إن أشد الناس إفسادا هم المنافقون، ويحاولون أن يلبسوا ثياب المصلحين، ويظهروا أنفسهم بأنهم يريدون الإصلاح: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12]،وأقبح من ذلك أنهم يتهمون المصلحين بالإفساد، وهذا مذهب إمام المفسدين فرعون، الذي اتهم موسى بالإفساد، وحاول أن يقنع قومه بذلك، يقول جل وعلا: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26] فيا عجبا! فرعون الطاغية يزعم انه يخاف على الدين من موسى عليه السلام، ويزعم أنه يريد حماية مجتمعه من فساد موسى عليه السلام.

إن الله عز وجل مع أهل الإصلاح، ويتولاهم وينصرهم ويعينهم على المفسدين، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196] وقال جل وعلا: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117] فالله عز وجل يعطي كل عبد على نيته، فهو جل وعلا يعلم من نيته الإفساد ومن قصده الإصلاح، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ [البقرة: 220].

فأمر أهل الإفساد مكشوف، بل إن الله جل وعلا يبطل عمل المفسدين، ويحبط مخططاتهم، قال جل شأنه في معرض أخبار موسى مع فرعون: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81].

و من صور الإفساد في الأرض متعددة:  على رأسها الاعتداء على الأموال والأرواح وإخلال الأمن، وهذا أمر يعرفه الجميع، ولكن من صور الإفساد التي يظن بعض الناس أنها ليست من الإفساد وهي منه: أكل أموال الناس بالباطل، والتعامل بالربا، وطلب الرشوة أو أخذها، والفساد الإداري في الأجهزة والإدارات المختلفة، وكذلك الاعتداء على حقوق الآخرين بسرقة أو نحوها، واحتكار المواد الغذائية وخاصة الضروري منها.

ومن الفساد تغيير منار الأرض وعلاماتها، ويدخل في ذلك تعمد إفساد اللوحات الإرشادية التي تضعها الدولة لدلالة الناس وإرشادهم.

ومن الإفساد: الإعانة على نشر البدع والمنكرات، وإشاعة الفاحشة، ومحاربة دين الله، والاستهزاء بأحكامه وأهله ودعاته، والحكم بغير ما أنزل الله، وإثارة الفتن، وتخريب وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.

ومنها بيع المحرمات كالدخن والمخدرات، والمجلات الماجنة، والأفلام الهابطة.

هذه بعض من أنواع الإفساد التي قد يقع فيها بعض الناس وهم لا يشعرون أنهم يفسدون.

وعقوبة الذين يفسدون في الأرض بينها الله تعالى في قوله تعالى : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )  المائدة: 33.

ثالثا : العقوبة الشديدة على الغيبة والنميمة والتجسس :

الغيبة محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، وعدَّها كثير من العلماء من الكبائر، وقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل لحم أخيه ميتاً فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) الحجرات: 12.

ولا يخفى أن هذا المثال يكفي مجرد تصوره في الدلالة على حجم الكارثة التي يقع فيها المغتاب، ولذا كان عقابه في الآخرة من جنس ذنبه في الدنيا، فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ـ ليلة عرج به ـ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قال: فقلت: “من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم” والأحاديث في ذم الغيبة والتنفير منها كثيرة.

أسبابها الباعثة عليها كثيرة منها: الحسد، واحتقار المغتاب، والسخرية منه، ومجاراة رفقاء السوء، وأن يذكره بنقص ليظهر كمال نفسه ورفعتها، وربما ساقها مظهراً الشفقة والرحمة، وربما حمله عليها إظهار الغضب لله فيما يَدَّعي.. إلى غير ذلك من الأسباب.

وأما علاجها فله طريقان: طريق مجمل، وطريق مفصل كما ذكر الغزالي فالأول:

أن يتذكر قبح هذه المعصية، وما مثل الله به لأهلها، بأن مثلهم مثل آكلي لحوم البشر، وأنه يُعرِّض حسناته إلى أن تسلب منه بالوقوع في أعراض الآخرين، فإنه تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرضه، فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفاً من ذلك.

أما طريق علاجها على التفصيل: فينظر إلى حال نفسه، ويتأمل السبب الباعث له على الغيبة فيقطعه، فإن علاج كل علةٍ بقطع سببها.

فإن وقع العبد في هذا الذنب فليرجع إلى الله سبحانه وليتب إليه، وليبدأ فليتحلل ممن اغتابه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كانت له عند أخيه مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه” متفق عليه من حديث أبي هريرة، فإن خشي إن تحلله أن تثور ثائرته ولم يتحصل مقصود الشارع من التحلل، وهو الصلح والألفة، فليدع له، وليذكره بما فيه من الخير في مجالسه التي اغتابه فيها، ومما ينبغي التنبه له أن الشارع أباح الغيبة لأسباب محددة من باب الدخول في أخف المفسدتين دفعا لأعظمهما وهي:

1 – التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان أو القاضي، وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه.

2 –  الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته، فلان يعمل كذا فازجره عنه.

3 –  الاستفتاء، بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي بكذا فهل له كذا؟ وما طريقي للخلاص ودفع ظلمه عني؟

4 –  تحذير المسلمين من الشر، كجرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين، ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئاً معيباً ، أو شخصا يصاحب إنساناً سارقاً أو زانيا أو ينكحه قريبة له ، أو نحو ذلك ، فإنك تذكر لهم ذلك نصيحة، لا بقصد الإيذاء والإفساد.

5 –  أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته، كشرب الخمر ومصادرة أموال الناس، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر.

6 –  التعريف، فإذا كان معروفاً بلقب: كالأعشى والأعمى والأعور والأعرج جاز تعريفه به، ويحرم ذكره به تنقيصاً. ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى . وقد نص على هذه الأمور الإمام النووي في شرحه لمسلم ، وغيره. والله أعلم.

أما النميمة: فهي السعي للإيقاع في الفتنة والوحشة، كمن ينقل كلاماً بين صديقين، أو زوجين للإفساد بينهما، سواء كان ما نقله حقاً وصدقاً، أم باطلاً وكذباً، وسواء قصد الإفساد أم لا، فالعبرة بما يؤول إليه الأمر، فإن أدى نقل كلامه إلى فساد ذات البين فهي النميمة، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فقد قال تعالى: (هماز مشاءٍ بنميم) [القلم: 11].

أما السنة فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: “إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول” متفق عليه، وروى أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة”.

وأما الإجماع فقد قال ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: قال الحافظ المنذري أجمعت الأمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله ـ عز وجل ـ انتهى.

أما عن التجسس: التجسس خلق ذميم لا يفعله إلا ضعاف الإيمان، وهو من أخلاق اليهود والنصارى والمنافقين وليس من سمات الصالحين.

نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن التجسس في آية محكمة وصريحة تدل على حرمة هذا الفعل المشين والخصلة المذمومة فقال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)  الحجرات: ١٢.

قال ابن جرير وهو يتحدث عن تفسير هذه الآية: قوله: (ولا تجسسوا) يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره.. ثم ذكر أثر ابن عباس:( نهى الله المؤمن من أن يتتبع عورات المؤمن).

وقد اعتبر العلماء التجسس المحرم على المسلمين من كبائر الذنوب، قال ابن حجر الهيتمي المكي معلقاً على قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا}: [وعلى كلٍ ففي الآية النهي الأكيد عن البحث عن أمور الناس المستورة وتتبع عوراتهم.

هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط