الطريق البديل

أسباب زوال النعمة ومحق البركة في ضوء الكتاب والسنة (1) بقلم: د. عصام عبد ربه مشاحيت عضو الجمعية الفقهية السعودية

0 1٬113

إن من دواعي طاعة الله, والتمسك بشرعه, وأداء ما أوجبه, والانتهاء عما حرمه, هو الرغبة فيما أعده للمحسنين, والرهبة مما توعد به المسيئين المقصرين،, قال تعالى: “أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ”(الزمر:9).

ومن فضل الله وكرمه, أنه أمدَّنا بنعمٍ كثيرة, لا عدَّ لها ولا حصر, قال تعالى: “وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا” (إبراهيم: 34), ولما كانت النعم, قد تتعرض للزوال, أرشدَنا ديننا الحنيف إلى الأسباب, التي تزيل نعمة الله وتمحق بركة الرزق.

وذلك في القرآن الكريم وسنة النبي الأمين – صل الله عليه وسلم -، والتي منها على سبيل الذكر لا الحصر:
1- كفران النعمة: كفران النعمة, بمعنى إنكارها, جحودها, عدم الإقرار بها, سواء كان هذا بالقلب أو باللسان أو بالفعل.

فإذا كان القلب منكراً للنعمة, فهذا كفر بها, وإذا قال اللسان كلاما يدل على إنكار النعمة, فهو كفر بها, وكذلك إذا صدر فعل يدل على إنكار النعمة, فهو كفر بها, وقد كان من دعائه-عليه الصلاة والسلام-: “اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك” (أخرجه مسلم في صحيحه رقم: 2739).
قال تعالى:” وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ” (إبراهيم: 7), قال الإمام الطبري – رحمه الله-: وقوله تعالى” لئن شكرتم لأزيدنكم”, يقول: لئن شكرتم ربَّكم, بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، لأزيدنكم في أياديه عندكم ونعمهِ عليكم، على ما قد أعطاكم من النجاة من آل فرعون, والخلاص مِنْ عذابهم.

وقوله تعالى:”ولئن كفرتم إن عذابي لشديد “، يقول: ولئن كفرتم، أيها القوم، نعمةَ الله, فجحدتموها بتركِ شكره عليها وخلافِه في أمره ونهيه, وركوبكم معاصيه(إن عَذَابي لشديد), أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي.

وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها, ولئن كفرتم النعم, وسترتموها, وجحدتموها, إن عذابي لشديد، وذلك يسلبها عنهم, وعقابه إياهم على كفرها (تفسير ابن كثير 4/479).
وقال تعالى:” وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” (النحل:112.), قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره: ” هذا مثل أريد به أهل مكة, فإنها كانت أمنة, مطمئنة, مستقرة, يتخطف الناس من حولها, ومن دخلها كان آمنا لا يخاف.

كما قال تعالى: “وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا”, وهكذا قال ههنا “يأتيها رزقها رغدا”, أي: هنيئا سهلا “من كل مكان فكفرت بأنعم الله”, أي: جحدت آلاء الله عليها, وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم.

كما قال تعالى: “ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار”, ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما, فقال: “فأذاقها الله لباس الجوع والخوف”, أي: ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء, ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان.

وذلك أنهم استعصوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبوا إلا خلافه, فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف, فأصابتهم سنة, أذهبت كل شيء لهم, فأكَلُوا العِلْهِز, وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه, وقوله والخوف وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه.

ويقول الشيخ السعدي – رحمه الله – في تفسيره:” وهذه القرية, هي مكة المشرفة, التي كانت آمنة مطمئنة, لا يهاج فيها أحد, وتحترمها الجاهلية الجهلاء, حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه, فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم, والنعرة العربية, فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها, وكذلك الرزق الواسع.

كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر, ولكن يسر الله لها الرزق, يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم” وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون “.
2- احتقار النعمة والانتقاص منها سبب عظيم في زوالها أو محق بركتها: لا شك أن احتقار النعمة مغاير من بعض الوجوه لكفرانها؛ فكفران النعمة جحود للنعمة من أصلها، أما احتقار النعمة فهو اعتراف بها لكنه مع احتقارها وانتقاصها، فهو مغاير للكفران من هذا الوجه.
وقد حذرنا الله – عز وجل – في كتابه، وحذرنا رسوله – صلى الله عليه وسلم – في سنته من احتقار النعمة وبين لنا أن عاقبة ذلك هو زوال هذه النعمة أو زوال بركتها، قال تعالى:” وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ” (سبأ: 18).
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره: يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغبطة والنعمة، والعيش الهنيء الرغيد، والبلاد الرضية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة، بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماءً وثمرا، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم.
ثم بين تعالى ازدراءهم للنعمة وبطرهم, فقال تعالى:” فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” (سبأ: 19), قال مجاهد-رحمه الله-:” بطروا النعمة وسئموا الراحة”(معالم التنزيل للبغوي6/396), وقال ابن عاشور:” فلما تمت النعمة بطروها, فحلت بهم أسباب سلبها عنهم “(التحرير والتنوير لابن عاشور 22/43).
ومما يدل أيضا على أن احتقار النعمة سبب في زوالها أو محق بركتها, قصة بني إسرائيل مع موسى – عليه السلام – لما أنزل الله عليهم المن والسلوى, عابوا هذه النعمة وانتقصوها, كما بين الله على لسانهم قال تعالى: ” وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ”(البقرة: 61) .

يقول الشيخ السعدي – رحمه الله في تفسيره: ” أي: واذكروا، إذ قلتم لموسى،  على وجه التملل لنعم الله و الاحتقار لها، ” لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ “,  أي: جنس من الطعام، وإن كان كما تقدم أنواعا، لكنها لا تتغير، ” فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا” أي: نباتها, الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، ” وَقِثَّائِهَا ” وهو الخيار ” وَفُومِهَا ” أي: ثومها، والعدس والبصل معروف.

قال لهم موسي ” أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ” وهو الأطعمة المذكورة، ” بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ “, وهو المن والسلوى، فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم، أي مِصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم, الذي من الله به عليكم،  فهو خير الأطعمة وأشرفها، فكيف تطلبون به بدلا؟، ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم, واحتقارهم لأوامر الله ونعمه, جازاهم من جنس عملهم,

فقال: ” وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ “, التي تشاهد على ظاهر أبدانهم, ” وَالْمَسْكَنَةُ ” بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم عزيزة، ولا لهم همم عالية، بل أنفسهم أنفس مهينة، وهممهم أردأ الهمم، ” وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ” أي: لم تكن غنيمتهم, التي رجعوا بها وفازوا، إلا أن رجعوا بسخطه عليهم، فبئست الغنيمة غنيمتهم،  وبئست الحالة حالتهم.

” ذَلِكَ ” الذي استحقوا به غضبه, “بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ” الدالات على الحق الموضحة لهم، فلما كفروا بها, عاقبهم بغضبه عليهم… (تفسير السعدي:9).
ومن الأدلة أيضا, ما أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:” انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم” (البخاري حديث رقم : 6125 ، ومسلم حديث رقم: 2963 ، واللفظ لمسلم).

هذا الحديث من جوامع الكلم النبوي، فالخلق متفاضلون في أرزاقهم، كما قال تعالى: “نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا” (سورة الزخرف: 32 ).

ولما كان الخلق بهذا التفاوت، والإنسان زائغ البصر، كثير التطلع لما ليس في يده، ندبنا الموجه الأعظم -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الأدب السامي، بهذا الحديث الجامع.
وهناك أدلة أخرى كثيرة تدلنا دلالة واضحة على أن احتقار النعمة سبب في زوالها أو محق بركتها، ولكني أكتفي بما ذُكر ففيه الكفاية.
 ولعلي أقف عند هذا الحدّ مخافة السآمة والملل من جانب القارئ الكريم، وأكمل في مقال قادم بمشيئة الله تعالى إن قدر الله لنا البقاء.
وكتبه
د. عصام عبد ربه محمد مشاحيت
عضو الجمعية الفقهية السعودية
عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة
عضو الهيئة الاستشارية العليا منصة أريد للعلماء والخبراء والباحثين الناطقين بالعربية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.