أسباب تغير الفتوى (3) د. عصام عبد ربه محمد مشاحيت أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية
دار حديثي في الحلقة السابقة حول أسباب تغير الفتوى، وفي هذه الحلقة يدور حديثنا حول تغير الفتوى ومقاصد الشريعة، وتطبيقات فقهية على تغير الفتوى عند علماء الأمة, فأقول, وبالله التوفيق:
أولا: تغير الفتوى والحكمة منه:
لا شك أن التغير الذي يحدث في الفتوى، إنما هو للأحكام المبنية على العرف والعادة، فإذا كان العرف والعادة يستدعيان حكماً ثم تغيرا إلى عرفٍ وعادةٍ أخرى، فإنَّ الحكم يتغير إلى ما يوافق ما انتقل إليه عرفهم وعادتهم، وبتغير الأزمان كذلك تتغير احتياجات الناس وأعرافهم، فيتبع هذا التغير اختلاف الفتوى.
وقد يكون التغير بحسب اقتضاء المصلحة له، زمانا ومكانا، وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإنّ الشرع ينوِّع فيها بحسب المصلحة، وهذا يدلّ على مرونة الشريعة وسعتها.
ويمكن لنا أن نقول: أن أساس الشريعة ومبناها، مصالح العباد في المعاش والمعاد ويمكن لنا أن نلخص الحكمة من تغير الفتوى فيما يلي:
-
مراعاة المصلحة العامة وعدم نفي المصلحة الخاصة.
-
مراعاة تغير الأزمان والأمكنة والأعراف والعوائد.
-
الربط بين النص والواقع في إطار رؤية نظرية حكيمة.
-
الموازنة بين المصالح والمفاسد، ودرأ أكثرها ضررا واستجلاب المصالح بضرورياتها وحاجياتها وتحسيناتها وتقديمها في الأولويات
ثانيا: تغير الفتوى ومقاصد الشريعة:
لا بد للمفتي أن يراعي مقاصد الشريعة الإسلامية والغايات التي جاءت من أجلها في إجابته عن أسئلة المستفتين، فمؤسس علم المقاصد –الشاطبي رحمه الله- جعل هذه المراعاة شرطا أساسيا لمن يتولى الاجتهاد والفتوى، وهو يرى أن كل غافل عنها في حكمه وفتواه يؤدي به إلى الزلل والانحراف.
فإن الناظر والمدقّق ليعي أهمية التقعيدين الأصولي والمقاصدي في فهم واستيعاب قضايا الشريعة الإسلامية، فأهميّة الأول تكمن في كونه منار استنباط الحكم الشرعي، بينما الثاني يدرس مقاصد وحِكم الحكم المستنبط بوساطة الأدوات الأصولية، وبذلك كان علم مقاصد الشريعة يبدأ حين ينتهي علم أصول الفقه، بمعنى أنه متمّم له عند تنزيله على الوقائع، يقول الإمام السيوطي وهو يؤكد هذه الحقيقة: “فلا حاجة إلى أصول الفقه إلا لمن يصير مجتهدا به“، بمعنى آخر أن الأصوليّ يستنبط الأحكام من آحاد الأدلة، أما المقاصدي فيستلهمها تلقائيا مما تكتنزه مجموع الأدلة من مبادئ كلية وأبعاد مصلحية، لذلك كان علم المقاصد لا يستوعبه إلا من أحاط بأحكام الشريعة، وعقل معانيها ومراميها، وفهم قواعد الأصول واستوعب مباحثها ، والمفرق بينهما كمن يفرق بين الروح والجسد ليؤول إلى الموت .
فمن ضوابط تغير الفتوى مراعاة مقاصد الشريعة في التغيير وأنه لا يخرج عنها وأنه انتقل من مقصد إلى مقصد آخر دعت إليه الشريعة.
ثالثا: تطبيقات على تغير الفتوى:
من أمثلة تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف:
-
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال:” كنا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فجاء شاب، فقال: يا رسول الله، أقبّل وأنا صائم؟ قال: لا، فجاء شيخ، فقال: يا رسول الله، أقبّل وأنا صائم؟ قال: نعم، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله: “قد علمت نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه”(مسند أحمد بن حنبل 2/ 220، برقم: 7054. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 4/ 138، برقم: 1606).
فيلاحظ كيف أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذا الموضع أجاب الشاب على سؤاله بجواب يختلف عن إجابته للشيخ رغم أن السؤال واحد، مما يدل على مراعاته للأحوال.
-
حديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “من ضحى منكم، فلا يصبحن بعد ثلاثة ويبقى في بيته منه شيء. فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهد -أي شدة وأزمة – فأردت أن تعينوا فيها”(صحيح البخاري 5/ 2115، برقم: 5249).
أفاد الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام في حالةٍ معينة، ولعلَّةٍ طارئة، وهي وجود ضيوف وافدين على المدينة، فيجب أن يوفر لهم ما يوجبه كرم الضيافة من لحم الضحايا، فلما انتهى هذا الظرف العارض، وزالت هذه العلة الطارئة، زال الحكم الذي أفتى به الرسول-صلى الله عليه وسلم- تبعا لها، إذ المعلول يدور مع علته وجوداً وعدماً، وتغيرت الفتوى من المنع إلى الإباحة، كما جاء في بعض الروايات: “كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا” (سنن ابن ماجة 2/ 1055، برقم: 3160. قال الشيخ الألباني: صحيح، صحيح ابن ماجة 2/ 205، برقم: 2558).
فهذا مثلٌ واضحٌ لتغير الفتوى بتغير الأحوال.
-
حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-:” أن النبي الله – صلى الله عليه وسلم – جلد في الخمر: بالجريد والنعال، ثم جلد أبو بكر: أربعين، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى، قال ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين” (صحيح مسلم 3/ 1330، برقم: 1706). أفاد هذا الحديث: أن شارب الخمر جلد في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالجريد والنعال، وفي عهد أبي بكر – رضي الله عنه – قرر العقوبة أربعين، وفي عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – شاور الناس، فجعله ثمانين، أما عثمان – رضي الله عنه – فجلد ثمانين وأربعين، وعلي- رضي الله عنه – ورد عنه الأمران. وقال: كلٌّ سُنَّة.
مما سبق: يتضِّح أن الصحابة – رضي الله عنهم – لم يثبت لديهم حدٌّ معين في الخمر، ولو ثبت لهم ذلك لم يحتاجوا إلى المشاورة فيه، وإلى استعمال الرأي بالقياس على القاذف وغير ذلك من الاعتبارات، وإذا لم يثبت لديهم نص ملزم، فقد تغير حكمهم، واختلفت فتواهم بتغير الزمن واختلاف الأحوال.
-
ومن الأمثلة على تغير الفتوى بتغير الزمان، ما نقله الزرقا: أنه لما ندرت العدالة وعزت في هذه الأزمان، قال الفقهاء: بقبول شهادة الأمثل فالأمثل، والأقل فجوراً فالأقل. وقالوا نظير ذلك في القضاة وغيرهم، إذا لم يوجد إلا غير العدول، أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً؛ لئلاّ تضيع المصالح وتتعطل الحقوق والأحكام، فقد حسن ما كان قبيحاً، واتسع ما كان ضيقاً، واختلفت الأحكام باختلاف الأزمان، فإن خيار زماننا هم أراذل أهل العصر الأول. وكذلك جوزوا: تحليف الشهود عند إلحاح الخصم، وإذا رأى الحاكم ذلك لفساد الزمان. وجوزوا أيضاً: إحداث أحكام سياسية لقمع أرباب الجرائم عند كثرة فساد الزمان وأول من فعله عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – فإنه قال ستحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، وقد منع عمر بن عبد العزيز عماله عن القتل، إلا بعد إعلامه وإذنه به بعد أن كان مطلقاً لهم، لما رأى من تغير حالهم. (شرح القواعد الفقهية 1/ 229).
-
ولما رأى أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – ما عليه حال الناس، كان يضمِّن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة. وقال: لا يصلح الناس إلا ذاك. قال المحمصاني في كتابه (تراث الخلفاء)، وهو يتكلم عن الصحابة الكرام، ما نصه: “وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال. وتعرض في ذلك لمسائل عديدة منها المؤلفة قلوبهم، والطلاق الثلاثي المتسرع، وبيع أمهات الأولاد، وعدم التغريب في الحدود، وإعفاء السارق من القطع عام المجاعة، وتطوير عقوبة التعزير تأديباً وزجراً للمذنبين والمجرمين، وتحديد عاقلة الدية في القتل والجراح، وتفصيل أمور ضريبة الخراج” (تراث الخلفاء الراشدين ص: 589).
-
وقد كان الإمام أبو حنيفة: يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده، اكتفاءً بالعدالة الظاهرة، وفي عهد صاحبيه -أبي يوسف ومحمد- منعا ذلك، لانتشار الكذب بين الناس، وتغير حالهم. قال الكاساني نقلاً عن الحنفية: “هذا الاختلاف اختلاف زمان لا اختلاف حقيقة؛ لأن زمن أبي حنيفة – رحمه الله – كان من أهل خير وصلاح؛ لأنه زمن التابعين، وقد شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية بقوله:” خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” (صحيح مسلم 4/ 1962، برقم: 2533). فكان الغالب في أهل زمانه الصلاح والسداد، فوقعت الغنية عن السؤال عن حالهم في السر، ثم تغير الزمان وظهر الفسـاد في قرنهما، فوقعت الحاجة إلى السؤال عن العدالة. (بدائع الصنائع 5/ 401).
-
ومن الأمثلة على تغير الفتوى بتغير العرف: أنه لما كان لون السواد في زمن أبي حنيفة يعد عيباً. قال: بأن الغاصب إذا صبغ الثوب أسود يكون قد عيَّبه، ثم بعد ذلك لما تغير عرف الناس وصاروا يعدونه زيادة، قال صاحباه: إنه زيادة.
وكذلك الدُّور، لما كانت تبنى بيوتها على نمط واحد، قال المتقدمون -غير زفر- يكفي لسقوط خيار الرؤية رؤية بيت منها، ولما تبدلت الأزمان وصارت بيوت الدور تبنى على كيفيات مختلفة، رجَّح المتأخرون قول زفر، من أن لا بد من رؤية كل البيوت ليسقط الخيار. ) انظر: شرح القواعد الفقهية 1/ 227، وانظر: درر الحكام 1/ 47(.
-
ومن الأمثلة ما روي عن مالك أنه قال: إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول، فالقول قول الزوج، مع أن الأصل عدم القبض. وعلق القاضي إسماعيل – من فقهاء المالكية – على ذلك بقوله: هذه كانت عادتهم بالمدينة: أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها، لأجل اختلاف العادات.
-
ومن الأمثلة على تغير الفتوى بتغير حال الناس: ما قاله المتقدمون: إن الدائن ليس له استيفاء دينه من مال المديون حال غيبته، إلا إذا كان من جنس حقه.
وقالوا: على الزوجة أن تتابع زوجها بعد إيفائه لها معجل مهرها حيث أحب، لمَّا كان في زمانهم من انقياد الناس إلى الحقوق، ثم لما انتقلت عادة الناس إلى العقوق، قال الفقهاء: للدائن استيفاء دينه ولو من غير جنس حقه، وقال المتأخرون: لا تجبر الزوجة على متابعة الزوج إلى غير وطنها الذي نكحها فيه، وإن أوفاها معجل مهرها، لتغير حال الناس إلى العقوق.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.