أسباب تغير الفتوى (1) د. عصام عبد ربه مشاحيت أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية

0 321

قد تقرر عند الأئمة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان، والمكان، والعوائد، والأحوال.

قال ابن القيم، رحمه الله: “فصل في تغير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد.. -ثم قال: – وهذا فصل عظيم النفع جداً، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج، والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها، وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد” (إعلام الموقعين – ابن القيم 3/3)

ويقول القرافي –رحمه الله -: “إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تفتضيه العادة المتجددة” (الإعلام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 111)

وجاء في مجلة الأحكام العدلية المادة (39): “لا ينكر تغير الأحكام بتبدل الزمان”

أولا: تعريف الفتوى لغة: الفتوى كلمة تتكون من حرف الفاء والتاء وحرف المعتل، وهو اسم من افتى العالم إذا بين الحكم.، وأفتاه في الأمر إذا أبانه له. وافتي الرجل في المسألة وأستفتيه فيها فأفتاني إفتاء. وفي الحديث: أن قوما تفاتوا إليه. ومعناه تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا. (لسان العرب لابن منظور، المجلد 15. دار صادر بيروت، الطبعة الثالثة سنة 1414- 1992). أصله من الفتي وهو الشاب الحدث الذي شب وقوي، فكأنه يقوى ما أشكل بيانه فيشب ويصير فتيا قويا (آداب المفتي والمستفتي لابن الصلاح، المجلد الأول، دار المعرفة بيروت لبنان، الطبعة الأولي سنة 1406- 1986).

ثانيا: تعريف الفتوى اصطلاحا: فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك، إلا أن المضمون واحد. مثال ذلك، ما جاء في كتاب أصول مذهب الإمام أحمد أن الفتوى ما يخبر به المفتي جوابا لسؤال أو بيانا لحكم من الأحكام وإن لم يكن سؤالا خاصا. (أصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة سنة 1316 -1996)

قال القرافي: الفتوى هو إخبار عن حكم الله تعالى في إلزام وإباحة (الفروق للقرافي كما نقله د. عبد الله في أصول مذهب الإمام أحمد)، وجاء التعريف الاصطلاحي للفتوى في كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة، وهو بيان الحكم الشرعي. (معالم أصول الفقه عند أهل السنة للدكتور محمد بن حسين بن حسن الجيزاني، الطبعة الثانية بدون سنة الطبع).

ثالثا: أهمية الفتوى وخطورتها: لقد أدى التقدم العلمي، وتعدد حاجات الناس المستحدثة ، وما ترتب على ذلك من كثرة الوقائع المتباينة، والمتعددة مع غياب المؤسسات الشرعية التي تقوم بتطبيق الشريعة أو بيان حكمها فيها إلى تطلع المسلمين إلى معرفة حكم الله فيها لمعرفة حلالها من حرامها ، وصحيحها من فاسدها ، ومقبولها من مردودها ومرجع الناس في ذلك بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو عالم الشريعة ،الراسخ في العلم ، المشهود له بالزهد والورع، المستقل بأحكام الشرع نصا واستنباطا قال تعالى: ” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.

ومما لا شك فيه أن خلو المجتمع من المفتين يجعل الناس يسيرون وفق أهوائهم، ويتخبطون في دينهم خبط عشواء فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ويرتكبون المعاصي من حيث يعلمون أو لا يعلمون. (الفتيا ومناهج الإفتاء ـ د/ محمد سليمان الأشقر ـ دار النفائس ـ الأردن ـ طبعة ثالثة ص 28).

ومن ثم فحاجة الناس إلى المفتي لا تقل عن حاجتهم للطعام والشراب ولذلك وصفهم ابن القيم رحمه الله بأنهم:” في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب قال تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً” النساء: 5٩) . إعلام الموقعين ج1/16(

ففي هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى” برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة، ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما.

قال سهل بن عبد الله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم” (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ـ دار إحياء التراث ـ لبنان 1405هـ/1985م ج5/260)

ولما كان للإفتاء والفتوى هذه المنزلة العظيمة زاد خطرها إذ عليها يتوقف صلاح الدنيا والآخرة، ومعرفة الحلال من الحرام، ومما زاد من خطورتها كثرة الأحداث، وتعدد القضايا التي ليس لها نظير في حياة سلفنا يقاس عليه، أو لها نظير، ولكن تغيرت علل الأحكام بسبب تغير الظروف مما يستلزم معه تغير الحكم.

رابعا: شروط المفتي وآدابه وصفاته: قال ابن الصلاح- رحمه الله – (آداب المفتي والمستفتي – ابن الصلاح – تحقيق د. موفق عبد الله عبد القادر – مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة – ط 2 ، 1423 هـ ص : 85 : 100 بتصرف يسير): القول في شروط المفتي وصفاته وأحكامه وآدابه: أما شروطه وصفاته فهو: أن يكون مكلفًا مسلمًا، ثقة مأمونًا، متنزهًا من أسباب الفسق و مسقطات المروءة، لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح “للاعتماد ، وإن كان من أهل الاجتهاد ،(قال ابن حمدان في “صفة الفتوى”: 13): “أما اشتراط إسلامه وتكليفه وعدالته، فبالإجماع … “، وفي قول عند الحنفية: أن الفاسق يصلح مفتيًا؛ لأنه يجتهد لئلا ينسب إلى الخطأ، انظر مجمع الأنهر: 2/ 145.وقال ابن حمدان: 29: “ولا تصح من فاسق لغيره، وإن كان مجتهدًا، لكن يفتي نفسه، ولا يسأله غيره”، وانظر المجموع: 1/ 70، وسيتحدث عن هذا الأمر ابن الصلاح في فقرة (القول في أحكام المفتين: 106).

ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط مستيقظًا. ثم ينقسم وراء هذا إلى قسمين، مستقل، وغير مستقل.

القسم الأول: المفتي المستقل، وشرطه: أن يكون مع ما ذكرناه قيمًا بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما التحق بها على التفصيل، وقد فصلت في كتب الفقه، وغيرها. فتيسرت والحمد لله. عالمًا بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وذلك يستفاد من علم أصول الفقه، عارفًا من علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو، واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالمًا بالفقه، ضابطًا لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها. فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية، ولن يكون إلا مجتهدًا مستقلا والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد.

القسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل، ومنذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق، والمجتهد المستقل، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أحوال أربع:

الأولى: ألا يكون مقلدًا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل، وإنما ينتسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد، ودعا إلى سبيله.

الحالة الثانية: أن يكون في مذهب إمامه مجتهدًا مقيدًا فيستقل بتقرير مذاهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، ومن شأنه أن يكون عالمًا بالفقه، خبيرًا بأصول الفقه، عارفًا بأدلة الأحكام تفصيلا، بصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيمًا بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده، ولا يعرى عن شوب من التقليد له، لإخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المستقل.

الحالة الثالثة : أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، وبنصرته، يصور، ويحرر، ويمهد، ويقرر، ويزيف، ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك، إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه لم يرتضي في التخريج والاستنباط كارتياضهم، وإما لكونه غير متبحر في علم أصول الفقه على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أداته، على أطراف من قواعد أصول الفقه، وإما لكونه مقصرًا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق.

الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله، وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير أن عنده ضعفًا في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم، وأما ما لا يجده منقولا في مذهبه، فإن وجد في المنقول ما هذا في معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما.

خامسا: الفرق بين الفتوى والحكم: هنالك ثلاثة فروق بيَّنها الفقهاء بين الفتوى التي تصدر عن المفتي، وبين الحكم الذي يصدر عن الحاكم، وممن بيَّن هذه الفروق: الإمام القرافي في كتابه الفروق، والإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين، وهذا الفروق مُلَخَّصها كالتالي:

  • الفرق من حيث اللزوم من عدمه، فالمفتي لا يُلْزِم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قَبل قوله، وإن شاء تركه، وأما القاضي فإنه يُلزِم بقوله للمحكوم بما تضمنه الحكم. قال القرافي: “المفتي مخبرٌ محض، والحاكم منفِّذٌ ومُمضٍ “(أنوار البروق في أنواع الفروق – القرافي 7/ 0 19)

  • الفرق من حيث المتعلَّق به، فالفتوى شريعة عامة، تتناول المستفتي وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئيٌ خاص بمن له الحكم أو عليه، ولا يتعدى إلى الغير.

  • الفرق من حيث التوسع في الأحكام من عدمه، فالفتوى تعتبر أوسع دائرة من الحكم، ولذلك تجري في العبادات، وليس للحاكم أن يحكم بصحة التيمم أو فساده، وطهارة الماء أو نجاسته، وقد قالت المالكية: لو أن حاكماً أمر بإعلان وقت دخول رمضان، بناءً على شهادة ممن رأى هلال رمضان، فإعلانه ذلك يعتبر فتوى وليس بحكم. وكذلك إذا قال حاكم: ثبت عندي أن الدين يسقط الزكاة أو لا يسقطها أو ملك نصاب من الحلي المتخذ لاستعمال مباح سبب وجوب الزكاة فيه أو أنه لا يوجب، وبهذا يظهر أن الإمام لو قال: لا تقيموا الجمعة إلا بإذني لم يكن ذلك حكما (أنوار البروق في أنواع الفروق، القرافي 7/191). وقد قال شريح: أنا أقضي ولا أفتي، وقال ابن القيم: “فتيا الحاكم ليست حكماً منه، ولو حكم غيره بخلاف ما أفتى به لم يكن نقضاً لحكمه، ولا هي كالحكم” (إعلام الموقعين عن رب العالمين 5/ 86(.

وقد نصَّ القرافي، على أن دائرة الفتوى أوسع من دائرة الحكم، فقال: “كل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى، ولا عكس، وذلك أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة، بل إنما تدخلها الفتيا فقط، فكل ما وجد بها من الإخبارات فهي فتيا فقط” (أنوار البروق في أنواع الفروق 7/ 191).

أقف عند هذا الحدّ مخافة السآمة والملل من جانب القارئ الكريم، وأكمل في مقال قادم بمشيئة الله تعالى إن قدر الله لنا البقاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط